منتديات لحن المفارق
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى ثقافي اسلامي ترفيهي رياضي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الكُتّاب والسّياسة في العصر العباسيّ الأوّل

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
روح الاسلام
المدير العام
المدير العام
روح الاسلام


انثى
عدد الرسائل : 2163
العمر : 50
الموقع : منتديات لحن المفارق
العمل/الترفيه : موظفة حومية
المزاج : عادي
الدولة : الكُتّاب والسّياسة في العصر العباسيّ الأوّل D0dfd110
الاوسمة : الكُتّاب والسّياسة في العصر العباسيّ الأوّل 3547_1180475852
تاريخ التسجيل : 25/03/2008

الكُتّاب والسّياسة في العصر العباسيّ الأوّل Empty
مُساهمةموضوع: الكُتّاب والسّياسة في العصر العباسيّ الأوّل   الكُتّاب والسّياسة في العصر العباسيّ الأوّل Icon_minitimeالسبت 03 مايو 2008, 9:00 am



الكُتّاب والسّياسة في العصر العباسيّ الأوّل

قيل إن الكتابة في دواوين الدولة قديماً هي (أشرف مراتب الدّنيا بعد الخلافة)؛ نظراً للمكانة السامقة، والمنزلة العليّة، التي تبوّأها الكتّاب في إدارة سياسة الدولة وقضايا الحكم, وكانت الكتابة، في كثيرٍ من الأحيان مَرْقاة للوصول إلى سُدّة الوزارة، وسبيلاً إلى بلوغ هذه المرتبة العالية، غير أن الاصطلاء بنار السياسة وويلاتها كان نصيب كثيرٍ منهم.

ويعرض هذا البحث لعلاقة الكتاب بالسياسة عصرئذٍ، من خلال إطالة على مكانة الكُتَّاب ومنزلتهم، وعلاقة صناعة الكتابة بالوزارة، والمِحن والنكبات السياسية التي تعرّض لها الكتَّاب الوزراء، وإسهاماتهم في خدمة الثقافة العربية الإسلامية عامةً، والفكر السياسي على وجه الخصوص.

أولاً ـ تمهيد (في ثقافة الكتاب ومنزلتهم):

غنيٌّ عن البيان أنّ الدّيوان ـ كما يذكر القلقشندي (ت 821 هـ): "اسم للموضع الذي يجلس فيه الكُتّاب"(1)، وقد أصبح ـ بوصفه مصطلحاً ـ يشير إلى المكان الذي يتمّ فيه النظر في شؤون الدولة، ومن ثمَّ كان مدلول كلمة (كتَّاب) يشير إلى "فئة متميّزة من المختصين بالتدبير الكتابي لشؤون الدولة، وذلك منذ نشأة الدولة الإسلامية"(2).

ومع انتشار الإسلام واتساع رقعة الدولة الإسلامية، "تعدّدت الدواوين، وتفرّعت مهامها وتخصصاتها من أجل تصريف شؤون الدولة الحديثة، وأصبح للدواوين وأصحابها سلطان وأنظمة وقوانين، يمكن أن نطلق عليها مصطلح (الدواوينية أو الديوانية), الذي يقابل (البيروقراطية) في الوقت الحاضر، بالمعنى الحيادي للتعبير"(3).

وقد فصَّل العلماء القول في الأمور التي ينبغي أن يتّصف بها من يروم صناعة الكتابة، أَو ْما يُعرف بآلات البيان وأدواته ـ بحسب تعبيرهم ـ وكانت رسالة عبد الحميد الكاتب من أول ما صُنّف في هذا الباب؛ أعني ثقافة الكتَّاب(4)، وأتى من بعده خَلَفٌ آخرون، كان القلقشندي أكثرهم استيعاباً وشمولاً في موسوعته (صُبْح الأعشى في صناعة الإنشا).

وقد نبّه ابن الأثير (ت 637 هـ) إلى أن الكاتب ينبغي أن يتعلّق بكل علم، بخلاف النحوي، أو الفقيه أو المتكلم، ومما يجدر بالكاتب ـ عنده ـ الإلمام بالعربية، وعلم اللغة، وأمثال العرب، وأيامها، والأحكام السلطانية في الإمامة والإمارة والقضاء والحِسْبة وغير ذلك، وحفظ القرآن الكريم، والحديث الشريف، ثم خلُص إلى القول: "وبالجملة؛ فإن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فن من الفنون، حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء، والماشطة عند جلْوة العروس، وإلى ما يقوله المنادي في السوق على السلعة، فما ظنُّك بما فوق هذا؟ والسبب في ذلك أنه مؤهلٌ لأن يهيم في كلِّ وادٍ، فيحتاج أن يتعلق بكل فنّ"(5).

إذن، لم يكن الوصول إلى مرتبة الكاتب بالمرتقى السهل؛ إذ لا بد للمرء أن يكون موسوعيَّ المعرفة، غزير العلم، جمّ الثقافة، وقد كان الكاتب يُمتحن امتحاناً دقيقاً، تتبدّى من خلاله معرفته الأدبية والفكرية. وثمة دلائل عديدة، ونصوص كثيرة في عصرنا العباسي الأول" تُرينا ما كان يُطلب في الكاتب من ثقافةٍ واسعة، ومن حصافةٍ وتهذيبٍ في الذوق، وحلمٍ وأناة وذكاء، وقدرةٍ على تصريف الأمور،وإحسانٍ للجواب،ولباقةٍ في الخطاب، وبلاغةٍ في الكلام، بحيث يجذب القلوب والأسماع إليه، بل بحيث يسترق أفئدة الرجال، ويستولي على عقولهم استيلاء"(6).

وممّا تجدر الإشارة إليه، أن كتّاب الدواوين ليسوا في المنزلة سواء، بل هم في درجات ومراتب يفضل بعضها بعضاً، وفقاً لطبيعة العمل والديوان الذي يعمل فيه، فثمة (كاتب الخطّ)؛ وهو الذي ينسخ بخطّه الحسن مختلف الرسائل والوثائق الرسمية، و(كاتب اللفظ)، و(كاتب العقد، أو الحساب)، و(كاتب الحُكم) وهو من أهم أنواع الكتّاب؛ لأن موضوعه تطبيق أحكام الشريعة والأحكام السلطانية، و(كاتب التدبير أو الوزير)، وهو أعلى مراتب صناعة الكتابة، وكان لـه نفوذٌ واسعٌ في الدولة العباسية"(7).

ثانياً ـ صناعة الكتابة والوزارة:

وهنا يمكن القول : إن العلاقة بين صنعة الكتابة وإدارة شؤون الدولة علاقة مترابطة، أو بالأحرى علاقة وثيقة؛ إذ "كان ديوان الإنشاء [الرسائل] تارة يضاف إلى الوزارة، فيكون الوزير هو الذي ينفذ أموره بقلمه، ويتولى أحواله بنفسه، وتارة يُفرد عنه بكاتب ينظر في أمره، ويكون الوزير هو الذي ينفذ أموره بكلامه، ويصرفها بتوقيعه على القصص ونحوها، وصاحب ديوان الإنشاء يعتمد على ما يرِدُ عليه من ديوان الوزارة، ويمشي على ما يُلقى إليه من توقيعه، وربما وقع الخليفة بنفسه حتى بعد غلبة ملوك الأعاجم من الديلم وبني سلجوق وغيرهم على الأمر.

والأمر على ذلك تارة وتارة على انقراض الخلافة من بغداد"(Cool ولذا كانت الكتابة السبيل الأرحب إلى أرقى المناصب؛ وأعني الوزارة؛ فقد توسّل بها كثيرٌ من النابهين، الذين ما لبث نجمهم أن سطع، وتسمّوا بالوزراء، ومنهم من فاته شرف اللقب فحسب؛ إذ كان يعمل عمل الوزراء، سواء بسواء.

وقد ذكر ابن عبد ربه في هذا الشأن (ت 328هـ) كثيراً ممّن نَبُلَ بالكتابة ـ كما يقول ـ وكان من قبلُ خاملاً، منهم في عصرنا: يعقوب بن داود، ويحيى بن خالد البرمكي، وابن المقفع، والفضل بن سهل، وأخوه الحسن، وأحمد بن يوسف، ومحمد بن عبد الملك الزيّات، وغيرهم كثير(9)".

وهؤلاء بعض من شرّفته الكتابة، ورفعت قدره، ولو اعتبر من شرُف بالكتابة، وارتفع قدره بها؛ لفاتوا الحصر، وخرجوا عن الحد"، كما يقول القلقشندي(10).

ويشي كتاب الجهشياري (ت 331 هـ) المرسوم بـ (الوزراء والكتّاب) بالمنزلة العليّة، والمكانة السَّنيَّة للكتّاب، في الدولة الإسلامية عصرئذٍ، إذ يوحي العنوان بأن منزلتهم لا تقلّ عن منزلة الوزراء أو تدانيها مقاماً ، ولعلّ وصول كثيرٍ من الكتّاب إلى مقام الوزير، سواء أكانوا يلقّبون بالوزارة أم بالكتابة، كان مَدْعاة إلى تسمية الكِتاب بهذا الاسم؛ إذ كان عمل الكاتب وثيق الصّلة بعمل الوزير.

ثالثاً ـ الكُتّاب الوزراء ومِحَن السياسة:

إذا كانت الكتابة "أشرف مراتب الدنيا بعد الخلافة" كما قيل(11) فإن صاحبها في كثيرٍ من الأحيان عُرْضَة للاصطلاء بنار السياسة وويلاتها، وخاصةً بعد أن يصبح وزيراً، حتى قال الشاعر في ذلك(12):

قد وجدنا الملوكَ تَحْسُدُ مَنْ أعـ..... ـطته طوْعاً أَزِمَّةَ التدبيرِ

فإذا ما رأوا لـه النَّهْيَ والأَمْـ..... ـرَ، أَتَوْهُ من بأسهم بِنَكِيْرِ

أسوأ العالمين حالاً لديهم...... مَنْ تَسَمَّى بكاتبٍ أو وزير

إذن، فالحسد ـ كما يرى الشاعر ـ كان سبباً مباشراً في كثيرٍ من النكبات والمحن التي تعرّض لها الكتّاب أو الوزراء، وهذا كلامٌ لا يخلو من صوابٍ مبين، كما لا ينفي وجود أسبابٍ أخرى، تذكرها المصادر في بيانها لسبب النكبة؛ ولكنها ـ في كثيرٍ من الأحيان ـ لا تعدو أن تكون هَنَاتٍ، يمكن غفرانها، والعفو عن صاحبها، لولا هوىً متّبع، وحسدٌ كامنٌ طوته الجوانح والصدور،ولا سيما إذا ازدحم الشعراء ببابهم، واستمنح المُعْتفون جَنابهم، ومن ثم لا غرو إن كَرَبَ الخليفة حَسَدٌ لأحدهم، وهو يراه منافساً لـه في جميل ذكره، وعظيم سلطانه، وخاصةً إذا سعى الساعون، وأرجف الواشون، فأسعروا نار الفتنة، ولهيب الجوى. وقيل: "إذا كان الوزير يُساوي الملك في المال والهيبة والطاعة من الناس، فليصرعْه الملك، وإن لم يفعل، فليعلم أنه هو المصروع"(13).

وكان لمقتل أبي سلمة الخلاّل، الملقب بـ (وزير آل محمد)، مع أثره المحمود في الدعوة العباسية، أثرٌ في تخوّف رجال الدولة من التسمّي بالوزارة، بل قيل: "إن كل من استوزر بعد أبي سلمة، كان يتجنّب أن يُسمّى وزيراً؛ تطيّراً مما جرى على أبي سلمة؛ ولقول من قال:

إنّ الوزيرَ وزيرَ آل محمدٍ..... أوْدَى، فمن يَشْنَاكَ كان وزيراً"(14)

وقد عبر عن هذا المعنى أحمد بن أبي خالد ـ "وكان كاتباً شديداً فصيحاً لبيباً بالأمور"(15) ـ حينما أراد المأمون أن يستوزره بعد الحسن به سهل"، فتنصّل أحمد من الوزارة؛ وقال: "يا أمير المؤمنين أعفني من التسمِّي بالوزارة، وطالبني بالواجب فيها، واجعل بيني وبين العامة منزلة يرجوني لها صديقي ويخافني لها عدوّي؛ فما بعد الغايات إلا الآفات"(16).

ومن الكتّاب الوزراء الذين نُكبوا في العصر العباسي الأول، أبو أيوب سليمان بن مَخْلد المُوْرِيَاني (ت 154 هـ)(17)، نسبة إلى مُوْرِيَان إحدى قرى الأهواز، وقد قلّده المنصور ـ كما يذكر الجهشياري ـ الدواوين مع الوزارة، وغلب عليه غلبة شديدة، وصرّف أهله جميعاً في الأعمال، "حتى قالت العامة: إنه قد سَحَرَ أبا جعفر"(18).

وقد أدت الخصومات السياسية والمكايد دوراً كبيراً في نكبته، وكان هو أيضاً يكيد لخصومه، أو مَنْ يخشى منافسته في سلطانه، وقيل: إن لـه يداً في التخلّص من ابن المقفع، خوفاً من أن يطلبه المنصور، ويحلّه محلّه(19) لبلاغته ومعرفته بالسياسة وشؤونها.

وقد كان أبو أيوب "لبيباً بصيراً بالأمور، عاقلاً، فِطِناً، ذكياً، فاضلاً، كريماً، عزيز المروءة"(20)، إلا أن دسائس رجالات البَلاَط، ومكايد الساسة وأحابيلهم، كانت تُحاك عليه، كما كان هو يحوكها على مناوئيه ومنافسيه، فكانت من أهمّ الأسباب التي جعلت المنصور يفتك به وبأخيه وأولاده، ويستصفي أموالهم.

أما السبب المباشر لنكبته المُوريانيّ وأهله، فخيانة اطلّع عليها من قبله، تذكرها مصادر ترجمته بتفصيلٍ وافٍ، وقد يُشار إلى سببٍ آخر في بعض الروايات، لسنا بصدد ذكره(21). وإن كنا نعي أن ثمة سبباً أو أكثر لنكبة المُوريانيّ، فلنا أن نتساءل عن سبب قتل أخيه وأولاده؟ وخاصةً أن المصادر لا تذكر سبباً مباشراً للفتك بهم، أو لنقل: لا تذكر سبباً تُباح به دماؤهم في شريعة الإسلام العظيم، فالحكم أصلاً مقيّد بشريعة الإسلام عصرئذٍ، أو بالأحرى من الواجب أن يكون كذلك، إلاّ أن عالم السياسة وجسيم تحدّياتها يحتّم على أربابها ـ بحسب زعمهم ـ الخروج عن سَنَنِ الحق، وطرق الرشاد، في كثير من الأحايين، وإن كان هذا الخروج مسوّغاً من قبلهم؛ أي إنهم لا يعدمون الحجة البالغة لتسويغ أفعالهم، بل الزعم بأنها لا تخرج عن حدود الشرع، وضوابط المصلحة.

وفي معترك السياسية، يجدر بنا أن ندرك أن عصر المنصور عصرٌ تأسيسي ـ إن جاز التعبير ـ لكيان الدولة، فالحذر والريبة سمتان تستبدّان بالحاكم، دون وعيٍ أحياناً، فلا غرو إن أسرف في البطش والقوّة.

وقد أسرف المنصور، حقاً، في ذلك مع أبناء عمومته، من آل علي  ، بله الأباعد، وقد زعم أحد رجال الدولة، في قصة المُوريانيّ وأهله، أنه أدرك أن المنصور سيقتله وجميع أسبابه ـ بحسب تعبيره ـ وكانت حجته في ذلك الزعم أنه سمع المنصور "يتحدث أن مَلِكاً من الملوك كان يُسَاير وزيراً له، فضربت دابةُ الوزير رِجْلَ الملك، فغضب، وأمر بقطع رِجْلِ الوزير، فقطعت، ثم ندم، فأمر بمعالجته حتى بَرَأَ، ثم قال المَلِكُ في نفسه: هذا لا يحبني أبداً، وقد قطعتُ رِجْله، فقتله، ثم قال: وأهلُ هذا الوزير لا يحبونني أبداً؛ وقد قتله، فقتلهم جميعاً"(22).

ويلوح لي أن المنصور قد يفكر في ميدان السياسة على هذا النحو، وخاصة إذا تذكّرنا ما صنعه بعبد الله بن الحسن، والد محمد (النفس الزكية)، وكثيرين من أهل بيته(23)؛ غير أن حسن الظن يدعونا إلى استبعاد هذه الأسباب لقتل النفس، التي حرّم الله تعالى قتلها إلا بالحق، وليس من الحق أن تُزهَق أرواح أقصى جُرم أصحابها بُغض الحاكم. إذن لعل أسباباً أخرى لم تُفصح عنها المصادر، تكمن وراء هذه الأعمال، ربما استغلال النفوذ واحتجان أموال الرعية، أو تحوّل البغض أو الكره، إلى سلوك عمليّ، أو غير ذلك مما يتنافى وآراء أرباب السلطة(24).

ولما كانت سياسة المنصور على هذا النحو "لم تكن الوزارة في أيامه طائلة؛ لاستبداده واستغنائه برأيه، وكفاءته، مع إنه كان يشاور في الأمور دائماً، وإنما كانت هيبته تصغر لها هيبةُ الوزراء. وكانوا لا يزالون على وَجَلٍ منه وخوف، فلا يظهر لهم أبّهة ولا رونق"(25).

وكان يعقوب بن داود(26) كاتباً لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن، أخي محمد المعروف بـ (النفس الزكية)، وكان إبراهيم خرج في البصرة، سنة (145 هـ)، وباءت ثورته بالفشل، وقُتل هو وأخوه محمد (النفس الزكية). فطُلب يعقوب وحُبس أيام المنصور، فلمّا بويع المهدي مَنّ عليه بالعفو، وكان المهدي يخشى تحركات الشيعة الزيدية، فطلب رجلاً لـه معرفة بهم؛ ليأمن به مكايدهم، فدُلّ على يعقوب بن داود؛ "فاستحضره المهدي، وخاطبه فرأى أكمل الناس عقلاً، وأفضلهم سيرة، فشُغف به، و استخلصه لنفسه، ثم استوزره، وفوّض الأمور إليه"(27).

وقد أرسل يعقوب إلى الزيدية، "فأتى بهم من كل أوبٍ، وولاّهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليلٍ، وعملٍ نفيس"(28). وعلت منزلة يعقوب علواً كبيراً، فكان علوّه داعياً لحسده والكيد له، فَسَعَوْا به عند المهدي، وراعى الشعراء رغباتهم وأهواءهم، فقال بشار بن برد يهجوه(29):

بني أُميّة هُبُّوا طال نومكُمُ.... إن الخليفةَ يعقوبُ بنُ داودِ

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا.... خليفةَ الله بين الزِّقِ والعُودِ

ولم يلبث المهدي أن نكب يعقوب بن داود (سنة 166هـ) فحبسه وأهل بيته، ولم يزل محبوساً حتى أخرجه الرشيد، فاختار المجاورة بمكة المكرمة، ولم تطل أيامه، فمات هناك سنة (182، وقيل: 187هـ). أما سبب نكبته، كما تذكر مصادر ترجمته، فميله إلى آل عليّ  ، وإطلاقه أحدهم من محبسه، وكان المهدي أمره بقتله، وسعايات حُسَّاده به، وأنه يروم نقل الخلافة إلى أحد بني عليٍّ، وأن المشرق والمغرب طوع بنانه، ورهن إشارته، ونحو ذلك من مكايد رجال الدولة وأراجيفهم، التي أودت بحياة كثيرين ممن أذنبوا أو لم يذنبوا.

الأمر الذي زهّد الناس بصحبة الحاكم ومحاذيرها، ولهجت ألسنة الشعراء والكتاب وغيرهم بذمها، والتحذير من سوء مُنقلبها ، ولعل ما كتبه ابن المقفع في (الأدب الكبير) من أجود ما دُبّج في هذا المقام.



تابع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://lahne-almafarik1973.yoo7.com
روح الاسلام
المدير العام
المدير العام
روح الاسلام


انثى
عدد الرسائل : 2163
العمر : 50
الموقع : منتديات لحن المفارق
العمل/الترفيه : موظفة حومية
المزاج : عادي
الدولة : الكُتّاب والسّياسة في العصر العباسيّ الأوّل D0dfd110
الاوسمة : الكُتّاب والسّياسة في العصر العباسيّ الأوّل 3547_1180475852
تاريخ التسجيل : 25/03/2008

الكُتّاب والسّياسة في العصر العباسيّ الأوّل Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكُتّاب والسّياسة في العصر العباسيّ الأوّل   الكُتّاب والسّياسة في العصر العباسيّ الأوّل Icon_minitimeالسبت 03 مايو 2008, 9:00 am




وكان محمد بن عبد الملك الزيات، (30) "نادرة وقته عقلاً وفهمّاً وذكاءً، وكتابةً وشعراً وأدباً، وخبرةً بآداب الرياسة وقواعد الملك"(31).

عيّنه الحسن بن سهل كاتباً في الدواوين بعد أن امتدحه، وما لبث أن استوزره المعتصم، وأقبلت عليه الدّنيا؛ فامتدحه الشعراء، وانتجعه القُصّاد، ونهض بأعباء الوزارة خير نهوضٍ ، ووزر للواثق بعد المعتصم ، وكان في صدره مَوْجِدة عليه، فآلى أن يقتله إن صار الأمر إليه، فما استخلف عفا عنه قائلاً: "والله، ما أبقيتك إلاّ خوفاً من خلوّ الدولة من مِثلك، وسأكّفر عن يميني؛ فإني أجدُ عن المال عِوضاً، ولا أجد عن ملك عوضاً"(32).

وكان ابن الزيات رجل دولةٍ حازماً، حريصاً على أموال الدولة، شديداً في محاسبة الولاة عليها، والضرب على أيديهم، وقد حاول أن يضع حدّاً لعبث القوّاد الأتراك وجدهم، وينبه الخليفة إلى فسادهم وظلمهم، ويعيد للخلافة هيبتها، في زمنٍ غلب قادة الجند من الأتراك فيه على الخليفة.

وكان ابن الزيات شديداً على المتوكل قبل خلافته، يعامله بقسوة وجفاء، ولما توفّي الواثق أشار ابن الزيات بخلافة ابنه، فلما ولي أخوه المتوكل استوزر ابن الزيات أربعين يوماً ليطمئن، ثم ما لبث أن أغراه به خصمه الألد أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، قاضي القضاة، وأطمعه في ماله، حتى أصاخ إليه، فقبض عليه وطالبه بالأموال، ثم أدخله التَّنور، الذي كان ابن الزيات اتّخذه، لمعاقبة أرباب الدواوين والمطالبين بالأموال، فعُذّب فيه عذاباً شديداً، حتى مات سنة (233 هـ).

ويُعزى قتل ابن الزيات إلى جملة أسباب منها: إشارته بتولية محمد بن الواثق بدلاً من المتوكل، وكان ابن الواثق غلاماً صغيراً، فقام ابن أبي دؤاد بأمر المتوكل، فأفلح في ذلك. وكذلك قسوة ابن الزيات على المتوكل في حياة أخيه الواثق، والتضييق عليه في النفقات؛ بحجة أنه كان مسرفاً في اللهو والملذات ، بالإضافة إلى مكايد حُسّاده وخصومه؛ لسياسته الحازمة القاسية، وقد نُسِبَ إليه أنه قال: "الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة، وضعف في الُمَّنة"(33).

ويُذكر أن المتوكل لم يجد عنده من الأموال، ما يستوجب ذلك العقاب، فقال لابن أبي دؤاد: "أطمعتني في باطل، وحملتني على شخص لم أجد عنه عوضاً"(34)، وفي مقتله قال بعض الشعراء(35):

يكاد القلبُ من جَزَعٍ يطيرُ..... إذا ما قيل قد قُتِل الوزيرُ

أميرَ المؤمنين قتلتَ شخصاً.... عليه رحاكُمُ كانت تدورُ

فمهلاً يا بني العبّاس مَهْلاً.... لقد كُويت بغدْركم الصّدورُ

وصفوة القول : إن النكبات والمِحَن، التي تعرّض لها الكتّاب والوزراء في عصرنا العباسي الأول عديدة، الأمر الذي يومئ إلى حقيقةٍ بادهة، وهي أن الخلفاء العباسيين في عصرنا كانوا شديدي الحذر والريبة من رجالات الدولة، كما كانوا حريصين أيّما حرصٍ على سلطانهم، وعدم مزاحمة أحدٍ إياهم عليه، مهما كانت كفايته ومعرفته وبصره بسياسة العباد والبلاد، مما جعلهم أميل إلى البطش والاستبداد وعدم العفو، منذ قيام الدولة؛ إذ كان يهولهم أن يُسْلب سلطانهم، وتُزال دولتهم، التي كثيراً ما تشوّفوا إلى قيامها، مرهوبة الجانب، متماسكة البنيان.

ولا ينسى المرء أن مكايد رجال الدولة وأطماعهم، وتنافسهم على المناصب، كانت سبباً في تعرّضهم إلى صنوف الهوان والتقتيل، فما إن تقبل الدنيا على واحدٍ منهم حتى تدبر عنه، قالية مذمومة، إلى غيره، فكان "مَثَلُ أصحاب السلطان مَثَلَ قومٍ عَلَوْا جبلاً، ثم وقعوا منه، فكان أقربهم إلى التَلَفِ أبعدهم من الارتقاء"(36).

وقد عُرف بعض العباسيين بهذه الخَلّة؛ أي الغدر برجال الدولة، بل بمن كان لـه فضلٌ في قيامها أساساً، كسليمان بن كثير الخزاعي، وأبي سلمة الخلاّل، وأبي مسلم الخراساني، وغيرهم؛ لذا تنصّلت شخصيات بارزة من قبول الوزارة؛ لما عهدوه من وخيم مآلها، وسوء مغبّة الاضطلاع بها، كثُمامة بن أشرس المتكلم المعتزلي المعروف، إذ طلب منه المأمون أن يلي وزارته بعد الفضل بن سهل، وألح عليه، فرفض ضنّاً بمنزلته عند المأمون أن تزول: "فإني لم أرَ أحداً تعرض للخدمة والوزارة، إلا لم يكن لتسلم حاله، ولا تدوم منزلته"(37).

وقد عرف العباسيون ذلك في أنفسهم، وهذا الأمين يكتب إلى طاهر بن الحسين، قائد جيش المأمون، فيقول له: "اعلم أنه ما قام لنا منذ قمنا قائمٌ بحقنا، وكان جزاؤه منا إلا السيف، فانظر لنفسك أو دع"(38). وهي محاولة منه للإيقاع بينه وبين أخيه المأمون، وتخويفه منه على نفسه، ولا أحسبه تنكّب جادّة الصواب فيما قال أيضاً.

رابعاً ـ الفكر السياسي للكتّاب:

من المعلوم أن الكتّاب في العصر العباسي عموماً، كان لهم فضلٌ كبير في خدمة الثقافة العربية؛ إذ كان أسلوبهم الكتابي قائماً على جلال التفكير وجمال التعبير معاً، فقد "أنشأ هؤلاء لغة ذات طابع مزدوج: لغة إدارية؛ مع ما تقتضيه هذه اللغة من تعبيرٍ عن أوامر الحاكم مقاصده، ولكنها في الوقت نفسه لغة فنية، بالمعنى البلاغي العربي للكلمة.

فهي إذاً ليست لغة إدارية جافة؛ بل تؤلّف بين مقتضيات التعبير الإداري، وجمالية القول الفني"(39).

وقد أشاد الجاحظ ببراعة الكتّاب ، جمال أسلوبهم، وملاءمتهم بين سموّ الفِكر وبلاغة الأداء، فقال: إنهم "لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيَّرة، والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة، والمخارج السهلة، والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكّن، وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام لـه ماءٌ ورونق، وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عمرتها، وأصلحتها من الفساد القديم، وفتت للسان باب البلاغة، ودلّت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حِسَان المعاني"(40).

وقد تقدّم أن الكتابة في الدواوين صناعة ـ كما يقول القدماء ـ تستلزم معارف واسعة، فليس الأمر مقصوراً على بلاغة الكاتب، أو تمكّنه من العربية وآدابها تمكّناً مميزاً يخوّله أن يعبّر بها تعبيراً فنيّاً أو جمالياً؛ إذ لا بد أن تؤهّله ثقافته ومعارفه الواسعة لكي يستحق شرف أن يكون كاتباً؛ لأنه "إنما يترسّل في عهود الولاة والقضاة، وتأكيد البيعة والأيمان، وعمارة البلدان، وإصلاح فساد، أو تحريضٍ على جهاد، وسدّ ثغورٍ، ورتق فتوقٍ، واحتجاج على فئةٍ، أو مجادلةٍ لملّة، أو دعاء إلى أُلفة، أو نهيٍ عن فرقةً، أو تهنئةٍ بعطيّة، أو تعزيةٍ برزيّة، أو ما شاكل ذلك من جلائل الخطوب، وعظائم الشؤون، التي يحتاج فيها إلى أدوات كثيرة، ومعرفة مفتنّة"(41).

ومن ثمّ أضاف الكُتّاب إلى الثقافة العربية إضافات بالغة الأهمية، وخاصة في ميدان الفكر السياسي؛ فقد أفادوا من معارف الأمم الأخرى في هذا المجال، ولا سيما الفرس واليونان والهنود.

وكانت هذه المعارف انصبّت في يَمّ الثقافة العربية عصرئذٍ، على نحوٍ واسع، وكان حريّاً بالكتّاب أن يُلموا بها، إذ على الكاتب أن ينظر "في كتب المقامات، والخطب، ومحاورات العرب، ومعاني العجم، وحدود المنطق، وأمثال الفرس، ورسائلهم وعهوده، وتوقيعاتهم، وسيرهم، ومكايدهم في حروبهم"(42).

وقد تُرجم في ذلك كله الجمّ الوفير، وطِفق الكتّاب ينهلون من تلك المعارف، وخاصةً ما يتصل بالناحية السياسية والأخلاقية؛ بل شاركوا مشاركةً محمودة في ترجمتها، كما هو معروف عن ابن المقفع، وسهل بن هارون، وعلي بن داود كاتب زبيدة، والفضل بن سهل وأخيه الحسن وغيرهم.

وقد حَفَلَ أدب الكُتّاب السياسي بمادة وافرة من الثقافة الفارسية، التي تعنى بالشؤون الإدارية والسياسية للحُكم، ولا سيما أن كثيراً من الكتَاب كانوا من أَرُوْمَةٍ فارسية، فأفاد منهم الخلفاء كثيراً في هذا الميدان، وكان لكفاياتهم المميزة في ذلك أكبر الأثر في اعتلائهم أرفع المناصب في الدولة الإسلامية، كما كان لدالَّتهم بهذه الكفاية والمعرفة أثرٌ في النكبات التي تعرّضوا لها من الخلفاء، وفي ذلك يقول الرشيد موصياً إسماعيل بن صُبَيح الكاتب: "إياك والدالَّة؛ فإنها تُفسد الحُرْمة، وتُنقص الذمّة، ومنها أُتي البرامكة"(43).

وكان اهتمام الكتّاب في مجال السياسية منصبّاً على الناحية العملية لنظام الحكم والإدارة، أكثر من الاهتمام بالجانب الفلسفي العلمي، كما هي الحال عند الفلاسفة في (السياسة المدنية)، أو الجانب الديني الذي يُقَيّد السياسة بالشريعة، في (السياسة الشرعية).

وحاولوا أن يمزجوا بين أسس الدين ومبادئه في الحكم، وبين المعارف المستمدة من الأمم الأخرى، وكذلك بين متطلبات السياسة العملية؛ إذ أن لها تقاليدها المتوارثة وأصولها الخاصة، التي يجدر بالحاكم أن يعلمها، ولذلك يزخر أدبهم بفيضٍ من الحكم والنصائح والوصايا المبثوثة في الرسائل والخطب والعهود السياسية والمؤلفات المختلفة، التي تدور في فلك السلطان وما يتصل به من بقاء المُلك والحفاظ عليه وعدل الحاكم، وإحسانه إلى رعيته، والتزامه بالأخلاق الواجبة لاستمرار حكمه، من مثل: تأخير العقوبة والأناة والصبر ومنح العطايا وسياسة الجند وما إلى ذلك، كما يتوجّه أدب الكتّاب إلى الكتّاب أنفسهم فيوصيهم بالسلوك السوي تجاه حكّامهم مما يكفل لهم علوّ المنزلة ودوامها، وكذلك الأمر فيما يخصّ الحجّاب والوزراء والقوّاد ومن لفّ لفّهم من رجال الدولة.

وأيّاً كان الأمر، فإن الفكر السياسي الذي قدّمه الكُتّاب كان من أهم الأزواد الثقافية للخلفاء والولاة والأمراء، كما كان تحصيله وَكْدَ الكاتب وغايته الأساسية قبل أن يرشّح نفسه؛ لكي يكون كاتباً في الدواوين، وبعد أن يصبح كاتباً أيضاً؛ ليدلّ بسعة معرفته، ومدى كفايته، في هذا الميدان، وشعوبية على العرب في أحايين أخر؛ إذ يعتدّ بعض الكتّاب الفرس وعهودهم ووصاياهم وأخبار ملوكهم؛ إشارة منهم إلى أنهم أصحاب حضارة ضاربة الجذور، عميقة الفِكر. كما ألف بعضهم في مثالب العرب، وتتبع نقائصهم وعيوبهم، كما في كتابات أبي عبيدة، معمر بن المثنى (ت 210 هـ)، والهيثم بن عدي (ت نحو 207 هـ)(44).

وتجدر الإشارة إلى أن الكتابات التي يطلق عليها (مرايا الأمراء) تأتي في طليعة الفكر السياسي الذي أبدعه الكتّاب في هذا العصر، أو قبله بقليل، ويقصد بها النصائح السياسية التي يُسديها الكاتب إلى الحاكم أو وليّ عهده؛ لكي يكون سياسياً ناجحاً وتقوم على قاعدة أخلاقية، مرتبطة بالدين، وتلقى هذه الكتابات احتفاء بالغاً، حتى وإن كانت مصادرها بعيدة كلّ البعد عن أصول الإسلام(45). ويمكن القول أيضاً: إن (مرايا الأمراء): هي "كل نصٍّ، أيّاً كان شكله، يأخذ على عاتقه مهمة إعلام الحاكم بما يجب أن يكون عليه، وبما يجب أن يعرفه ويفعله؛ لكي يُحسن قيادة مملكته، ولكي يضمن صَوْنَ سلطته"(46). وتأتي كتابات ابن المقفع في صدارة هذا النوع من الكتابة السياسية، كما في (الأدب الكبير) و(رسالة الصحابة) و(كليلة ودمنة)، وكذلك مترجماته عن الفارسية، وبعض ما ترجمه غيره أيضاً، وأهمّها (عهد أردشير)، وكان مما يؤخذ أولياء العهود بدراسته والتعمّق فيه. علماً أن أساسه قائمٌ على طبقيةٍ، وشيء من وصولية عملية، وإنكار تام لمصطلح (العدالة) والاستغناء عنه بمصطلح (الحزم) كما يقول إحسان عباس(47).

وكان عبد الحميد الكاتب (ت 132هـ) سبّاقاً إلى هذا النوع من الكتابة في عهده الذي كتبه عن مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، إلى ولي عهده(48)، وقد جاء عهده في قسمين واضحين؛ أولهما: يعنى بالجانب الأخلاقي والسياسي، وثانيهما: بالقواعد الحربية التي يجب أن يأخذ بها في تحركاته كافةً، داخل نظام الجيش وعند التجهّز أو الرحيل أو النزول أو في غمار المعركة، ونحو ذلك.

ونحا نحوه طاهر بن الحسين في عهده إلى ابنه عبد الله، حين ولاّه المأمون ديار ربيعة، وقد نال العهد إعجاب المأمون، فأمر باستنساخه وبعثه إلى ولاة الأقاليم(49). ويتجلّى هذا النوع من الفكر في وصايا المنصور لابنه المهدي، وفي عهود الخلفاء، وغير ذلك من فنون النثر السياسي. والكتابة السياسية المسمّاة بـ (مرايا الأمراء) لاقت اهتماماً بالغاً من قبل العلماء، فألفت مؤلفات عديدة ـ في العصور اللاحقة في هذا الميدان ـ كما في كتاب الماوردي (ت 450 هـ) المُعنون بـ (تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك)، وكتابه: (نصيحة الملوك)، وكتابه: (سياسة الملوك)، وكتاب الإمام الغزالي (ت 505 هـ) الموسوم ـ (التبر المسبوك في نصيحة الملوك)، وغيرها كثير. فثمة عنوانات مماثلة لكتّاب من عصرنا العباسي الأول، ذكرها صاحبُ الفهرست وغيره من تراجمهم لأصحابها، إلا أنها لم تصل إلينا.

وفضلاً عن الكتابة في السياسة الملوكية، شارك الكُتّاب مشاركة فعلية في السياسة، من خلال وصول عدد منهم إلى الوزارة ومواقع الحكم، وكذلك من خلال صياغة الأوامر والتوجيهات التي يأمر بها الخليفة أو الوالي، ويصوغها الكاتب أو الوزير صياغة فنية؛ أي إنه هو الذي يدبّجها بأمر الخليفة. علماً أننا في هذا العصر نجد رسائل عديدة يكتبها الخلفاء أنفسهم أو يملونها على كتّابهم إملاءً، بحسب أهمية الرسالة والموقف الذي استدعى كتابتها، ولا سيما أن كثيراً من خلفاء هذا العصر كانوا على غاية رفيعة من البلاغة والبيان، كالمنصور والرشيد والمأمون(50).

ومن نافلة القول أن رسائل الكتّاب السياسية وعهودهم وتوقيعاتهم وغيرها، هي لسان حال الدولة يومذاك، أو لنقل: هي المعبّر عن موقف السلطة من قضايا العصر. فهي، والحال هذه، وثائق تاريخية، لا مَنْدوحة عنها، لمن أراد دراسة الحياة السياسية والاجتماعية في تلك العصور، أضف إلى ذلك قيمتها الفنية والأدبية في تاريخ النثر العربي. وقد أدت دوراً كبيراً في الدفاع عن شرعية الحكم العباسي، والتماس الحجج العقلية لذلك، كما في رسائل الخميس التي كانت تُكتب إلى أهل خراسان، أنصار الدعوة وشيعتها؛ لتأكيد حقّ العباسيين في الحكم، والتغنّي بحميد خصالهم، ومآثر أعمالهم. وكان يكتبها بأمر الخليفة كبارُ الكتّاب وبلغاؤهم، وهي تشبه، إلى حدّ كبير، ما تُصدْره الجهات العُليا في الدولة من (نشرات أو منشورات) سياسية، هدفها الدّعاوة والإعلام، وكذلك ما يعرف بـ (الجريدة الرسمية) في عصرنا.

ويتساءل المرء: هل كان ثمّة كتّابٌ في الدواوين دبّجوا رسائل في نقد الحُكم والتعويض به وفضح عيوبه؟ والحقّ أن الكتابة الديوانية كتابة رسمية، كما سلف القول، أي إنها تعبّر عن موقف الدولة من قضايا العصر، ومن ثَمَّ عُني الخلفاء والولاة بالترسّل الديواني والخطابة أيضاً عناية خاصة، وتابعهم في ذلك نقاد الأدب، وكتّاب البلاغة؛ نتيجة ارتباطهما بأمر الدِّين والسلطان. وقد قيل: إن "كُتّاب الملوك عيونهم المُبْصرة، وآذانهم الواعية، وألسنتهم الناطقة"(51).

إلا أن ما تجدر ذكره، أن أحد كتّاب الولايات، كان لـه باع مديدٌ في نقد عمّال ولايته، وهو بشر بن أبي كُبَار البَلَويّ (ت بعد 202 هـ)، وهو من بُلغاء الكتّاب، وكان من كَتَبَةِ الديوان بصنعاء في اليمن، وربما كان لـه نفوذٌ واسع في الإدارة المحلية، ولعله كان رئيساً لدواوينها جميعاً في اليمن، كما تقول وداد القاضي(52).

وتُعَدُّ رسائل البلويّ نموذجاً متميزاً للرسائل السياسية الناقدة، على نحو صريح مباشر، لا مُواربة فيه ولا ترميز، ويتجلى فيها وضوح فكره السياسي، وصلابته الخلقية والدينية. وقد كتب بعض رسائله إلى ولاة اليمن أنفسهم ينتقد أعمالهم، ومنها رسائل كتبها ردّاً على من سأله عن بعضهم، كالإمام الشافعي ويحيى البرمكي. وفي مقدمة ما يبتغيه البلويّ في رسائله هذه من الوالي أن يقوم بتطبيق أحكام الشرع في سياسته للبلاد، كما يعقد أهمية كبيرة على البِطانة المحيطة بالوالي والعمال الذين يَكِل إليهم الأعمال في ولايته، فعلى عاتقه وحده تقع مسؤولية اختيار هذه البطانة. ورؤية البلويّ لسلطة العليا في الدولة؛ أي الخلافة تقوم على أمرين: الأول: شرعية الخلافة شرعيّة مطلقة، والثاني: صلاحها الذي لا يرقى إليه الشكّ؛ إذ إن الخليفة لا يمكن أن يأمر الوالي، أيّ والٍ، عندما يولّيه أيّ عمل، إلا بالعدل والإحسان وإمضاء الشرع، وينهاه عن الظلم والجور والعدوان، فإذا قام الوالي بغير ذلك، فهو وحده المسؤول عن ذلك، قد خلع دينه وخان أمانته، وذمّة أمير المؤمنين بريئة من عمله. وقد استتبع إيمانه ـ كما تقول وداد القاضي ـ بشرعية الخلافة بعدم جواز الثورة على الخليفة؛ لأن الثورة تؤدي إلى الفتنة بين المسلمين(53). غير أنه لم يكن ضد مبدأ الثورة على إطلاق القول وإجماله؛ إذ إنه أحلّ الثورة على الظلم، ولكن على الولاة لا على الخليفة؛ لأنه بريءٌ ممّا يصنع الظالمون. ولذلك كلّه لا غرو "أن يُتّخذ البلويّ مرجعاً ثقة فيما يقول؛ لكي يتوجه إليه كبار القوم بالسؤال؛ طلباً لرأيه في أحوال اليمن وولاتها، ولا شك أن (مثاليته) فيما يتطلّبه من الوالي، وموقفه العجيب الجامع بين الإصرار على شرعية الخلافة، وعدم مشروعية الثورة ضدها، وبين تحميله الولاة وِزر تقصيرهم، وإحلاله الثورة ـ من ثمَّ ـ ضدّهم، كان مشجّعاً لأهل الدولة ـ ممثلين بيحيى البرمكي ـ على استمرار الاتصال به، رغم خروجه من السلطة المحلية باليمن"(54).

ولعل من تمام القول في بشر البلوي، أن نمثّل برسالة ناقدة له، تشي بملامح فكره السياسي، وتكشف لنا بعض أسرار بلاغته، التي كانت "تتهادى في البلاد، وكان لـه فيها مأخذٌ لم يسبقه إليه أحدٌ، ولم يلحقه فيه"(55)، ولنسمعه يقول في عبد الله بن مصعب الزبيري: "أما بعد؛ فإن من الناس من تَحَمُّلُ حاجّته أهْوَنُ من فُحشِ طلبه، ومنهم من حِمْلُ عداوته أخَفُّ من ثِقل صداقته، ومنهم من إفراط لائِمته أحسنُ من قدْر مِدْحته؛ وإن الله خَلَق أبا بكرٍ(56)، لِيغُمَّ به الدنيا، ويقذر به أهلها، فهو على قَذَره فيها من حُجَج الله على أهلها؛ فاسألُ الذي فَتَنَ الأرض بحياته، وغمَّ أهلها بطولِ بقائه، أن يُدِيلَ بَطْنَها من ظهرها، والسلام"(57).

وعلى هذه الشاكلة من النقد السياسي جرت رسائل بشر البلويّ، وكأنما هي قصائد هجائية ملتهبة في الولاة، صوّر فيها ظلمهم وخروجهم عن جادّة الصواب، ومخالفة أمر أمير المؤمنين في إحقاق الحقّ ورفع الظلم، وإقامة شعائر الدّين القويم.

ولستُ أعلم رسائل مشابهة لما كتبه البلويّ في الهجاء السياسي في عصرنا العباسي الأول، اتّسمت بالجرأة وقول الحقّ والثبات على المبدأ، دون خوف أو رهبة. ولعلّ لرأيه الصريح الحرّ أثراً في إبعاده عن خدمة الدولة والعمل في إدارتها.

وصفوة القول أنّ علاقة الكتّاب بالسياسة علاقة وثيقة، إذ كانوا لسان حال الدّولة، والمعبّر عن سياستها، وكان لمنزلتهم العليّة أثرٌ لا يجحد في سياسة الدّولة، والتأثير في شؤون الحُكم، حتى وصل كثيرٌ من النّابهين منهم إلى سُدّة الوزارة، غير أنّ كثيراً منهم أيضاً اصطلى بنارها، ولم يأمن ويلاتها. وقد دار فكرهم السّياسيّ في فلك السّلطان، والسّياسة العامّة للدّولة، ومنهم من انتقد سياسة بعض الولاة أو بطانة الخليفة وأعوانه، كما هي الحال لدى ابن المقفّع، في رسالته المعروفة بـ (رسالة الصّحابة). كما نهل الكتّاب من معين الثقافات الوافدة واستلهموا فكرها، ولا سيّما الثقافة الفارسية السّاسانية.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://lahne-almafarik1973.yoo7.com
 
الكُتّاب والسّياسة في العصر العباسيّ الأوّل
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات لحن المفارق  :: أدب وشعر :: التاريخ العالمي والاسلامي ادباء شعراء ومطبوعات-
انتقل الى: